كلنا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه وحي السماء كان يذهب إلى غار حراء في قمة جبل النور ليتعبد فيه. وهذا الغار على ارتفاع يصل إلى حوالي 900 مترا، والطريق إليه شديد الصعوبة، حيث يعاني الشاب القوي من التعب الشديد حتى يصل إليه. ومن يجلس في هذا الغار يرى أمامه البيت الحرام ويرى منظرا بانوراميا يكشف مكة كلها. كان سيد البشر يذهب إلى هذا الغار يبيت فيه الليالي ذوات العدد كما وردنا في الأحاديث.
والسؤال هنا، ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار؟ نعم، نعلم أنه كان يتعبد فيه. ولكن كيف كان يتعبد صلى الله عليه وسلم في غار حراء؟ يُصلي؟ لم تكن الصلاة قد فُرضت بعد. يقرأ القرآن؟ لم يكن القرآن قد نزل عليه بعد. كيف كنت تتعبد يا رسول الله؟ لم يردنا تفاصيل ذلك، ولكن ما أجمع عليه العلماء هو أن تعبده كان عبارة عن تفكر. تفكر في كل شيء، تفكر في خلق الله، تفكر في نفسه، تفكر في حال أمته والمجتمع الذي يعيش فيه، تفكر في ماضيه، تفكر في مستقبله.
إنها عبادة التفكر المهجورة. هجرناها رغم أنها أول عبادة تعبد بها رسول الله إلى ربه. هجرناها رغم أنها هي العبادة التي نزل عن طريقها الوحي واتصلت السماء بالأرض. إنها العبادة التي تعرف الرسول صلى الله عليه وسلم من خلالها على ربه. وكم كثيرة هي آيات القرآن التي تدعونا إلى التفكر. لو سألت أي شخص، وليكن من أصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة، مع احترامي الشديد لهم، متى كانت آخر مرة مارست فيها عبادة التفكر؟ ربما يقول لك نعم إني أتفكر دائما. قل له، متى كانت آخر مرة خرجت فيها من بيتك لتخلو بنفسك لتمارس عبادة التفكر كما كان يمارسها رسول الله؟ منذ شهر؟ شهرين؟ سنة؟ أكثر؟ ولا مرة؟
ليس لدي وقت للتفكر!!!
تأخذنا طاحونة الحياة وننسى أنفسنا، ونتحجج بأعباء الحياة وبأننا ليس لدينا الوقت لكي نتفكر. ولكن ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم متزوجا من السيدة خديجة التي كانت صاحبة مال كثير وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى إدارته؟ رغم ذلك، كان يخلو بنفسه في الغار ويبيت ليالي طويلة، وإن دل هذا فإنما يدل على عظم هذه العبادة. وأنا لا أطلب منك أن تبيت ليالي طويلة، فتكفيك ساعة واحدة كل فترة من الزمن، على ألا تطول هذه الفترة. ذكر الإمام الغزالي في كتابه "جدد حياتك" أن الإنسان عندما يكون لديه مكتب عليه أوراق متناثرة يشعر بضيق في نفسه، ولكنه عندما ينظمها ويرتب سطح مكتبه، يشعر بالارتياح. وهكذا نفسك، بحاجة لتخلو بها لتنظمها، فنفسك أولى بالرعاية.
أين تتفكر، وفي أي شيء تتفكر؟
عندما تختار مكانا تتفكر فيه، فليكن مكانا كله من صنع الله وليس فيه شيئا من صنع البشر. أقصد مكانا في الطبيعة التي خلقها الله، بعيدا عن كل شيء من صنع البشر، بعيدا عن السيارات، بعيدا عن المباني، الخ. لا ترى في المكان ولا تسمع فيه شيئا إلا ما هو من صنع الله فقط. تجرد من كل شيء صنعه الإنسان سوى ما يستر جسدك من ملابس. ابتعد عن هاتفك المحمول، ابتعد عن سيارتك، واخلع ساعتك، وما شابه ذلك. وليكن المكان شاطئ بحر، أو صحراء أو جبل، أو حقول خضراء، الخ. بالطبع، هذا هو الوضع المثالي، ولكن إن لم تستطع ذلك، فلا يجعلك ذلك تتقاعس عن عبادة التفكر، فيكفيك غلق باب غرفتك عليك لتتفكر فيها.
ولكن فيما تتفكر؟ باب التفكر مفتوح على مصراعيه. تفكر في كل ما ترى وكل ما تسمع وكل ما تشعر به وكل ما تلمسه وكل ما تشمه. تحدث مع نفسك وتحدث مع خالقك. اطرح ما تشاء من الأسئلة التي تدور بداخلك، وفكر في إجاباتها، أو استمع إلى إجاباتها تخرج من داخلك إن كنت من أصحاب النفوس الشفافة الصافية، وإلا فعليك أن تسعى لكي تكون كذلك.
فيما يلي بعض الأسئلة التي يمكنك أن تفكر فيها:
من أنا؟
ما الذي أريده من هذه الحياة؟
هل ستنتهي حياتي مثلي مثل ملايين البشر؟ ما هي البصمة التي سأتركها من بعدي في هذه الحياة؟
كيف أكون مميزا عند ربي في هذه الدنيا وعندما ألقاه في الآخرة؟
ما هي المشاكل التي أواجهها في هذه الحياة؟ وكيف السبيل إلى حلها؟
ما هو أكثر شيء أحبه في هذه الحياة؟ وكيف أناله وأحافظ عليه؟
ما هو أكثر شيء أكرهه في هذه الحياة؟ وكيف أتخلص منه؟
هل أنا راضي عن نفسي؟ وما الذي لا يعجبني في نفسي؟ وكيف أصلحه؟
هل أنا سعيد في حياتي؟ وما الذي ينقصني حتى أنال السعادة؟
كثيرة هي الموضوعات التي يمكن أن يتفكر فيها الإنسان. المهم ألا نتقاعس في اتخاذ القرار بإحياء عبادة التفكر في حياتنا، وأن نحافظ على هذه العبادة. فبفكرة واحدة يمكن أن تتغير حياتك 180 درجة، وبفكرة واحدة جاءت اختراعات غيرت وجه الأرض. وما أحوجنا أن نزرع في قلوب أطفالنا حب هذه العبادة وأن نخرج معهم إلى الطبيعة لنشاركهم في جلسات التفكر.
دمتم في سعادة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق