كنت أتناول وجبة العشاء في أحد مطاعم القاهرة بوسط المدينة، وكنت بمفردي، وجلس على الطاولة التي بجواري أب في أواخر الخمسينات من عمره ومعه ابنته وشاب يبدو أنه خطيب ابنته. كان الأب يدخن، وبالرغم من أنني لا أنزعج بسهولة من التدخين- مع العلم بأني غير مدخن- إلا أن دخان السيجارة كان زائدا عن حده وكانت التهوية سيئة في المكان. ترددت في أن أطلب من هذا الأب الامتناع عن التدخين خوفا من أن يتسبب هذا الطلب البسيط، والذي أعتبره حقي، في تعكير صفو هذه الجلسة العائلية. إلا أن الدخان الكثيف قد أفسد عليّ وجبتي وحرمني من الاستمتاع بها، خاصة أنها جاءت بعد جوع شديد. فلم أجد مفرا من أن أقل له بكل هدوء "ممكن بعد إذن حضرتك تطفئ السيجارة علشان مضايقاني؟"، فرد الأب قائلا "اصبر شوية يا سيدي لما تخلص السيجارة". وكان أسلوبه في الرد سيئا للغاية وبدت على وجهه السخرية من طلبي هذا.
رغم استيائي الشديد من ردة فعله، إلا أنني التزمت الصمت لأسباب منها احتراما لسنّه واحتراما لهذه الجلسة العائلية، ولأنني لاحظت انزعاج الابنة وخطيبها من رد الأب. ولكن السبب الرئيسي لالتزامي الصمت هو أنه قد خطر ببالي على الفور أن هذه فرصة رائعة للتطبيق العملي لما كنت أقرأه وأتعلمه. كنت في تلك الفترة أقرأ عن كيفية التحكم في المشاعر السلبية ومواجهة العنف بالحب، وكيفية عدم السماح لكلمة تخرج من فم شخص بأن تفسد عليّ يومي.
لقد قررت أن يكون ردي إيجابيا على هذا الرد السلبي الذي صدر من الأب. قررت أن أستخدم سلاح الحب الذي لا ينكسر أبدا. قررت أن أواجه العنف بالحب. فسارعت بالانتهاء من وجبتي ثم ذهبت إلى موظف الحسابات ودفعت قيمة وجبتي. ثم سألته في صوت منخفض عن حساب الطاولة التي كانت تجلس عليها تلك الأسرة، وأبلغته بأنني أريد أن أدفع الحساب لهم. وبالفعل تم ذلك، ودفعت له النقود، وطلبت منه ورقة صغيرة، فأعطاني إياها. ثم كتبت عليها جملة وطلبت من الموظف أن يعطيها للأب عندما يأتي لدفع حسابه وأن يبلغه بأن الشاب الذي كان يجلس بجواره هو الذي دفع الحساب وترك له هذه الورقة. كتبت على الورقة "أنا آسف لو كنت أزعجت حضرتك عندما طلبت منك إطفاء السيجارة، ولكني أرجو أن تحاول الإقلاع عن التدخين من أجل صحتك". ثم خرجت من المطعم وانصرفت لحال سبيلي، ولم أنتظر لمعرفة رد فعل ذلك الأب واختفيت عن المشهد تماما.
كنت أتمنى من وراء هذا التصرف أن يكون سببا لإقلاع هذا الأب عن التدخين، وما أهون هذا التصرف في سبيل هذه الغاية. وكان عندي أمل أن هذا التصرف على أقل تقدير سيشجع الأب على عدم التدخين مرة أخرى عندما يجلس في مطعم. لقد امتلأ قلبي سعادة نتيجة هذا التصرف، وهذا هو المكسب الذي حققه سلاح الحب، وذلك بدلا من أن يمتلأ قلبي بالكره والغضب لو كنت قابلت الرد السلبي برد سلبي مثله.
اعلم يا صديقي أنه لا يوجد في هذه الدنيا شيء أقوى من الحب. فلا يمكن أن يصمد العنف أو الكره أو الغضب أو أي شيء آخر أمام الحب. فبحب الحرية تتحرر البلاد والشعوب وتتهدم أمام هذا الحب قلاع الفساد والاستبداد. وبحب التميز ينال المرء الأوسمة والشهادات. بل إن هذا الكون الفسيح هو ثمرة من ثمار حب الله تعالى لعباده، فقد خلق لهم هذا الكون وأودع لهم فيه من النعم ما لا يُحصى، أدركوا منها القليل وغفلوا عن الكثير.
بالحب يتحول العدو إلى صديق. ألم تقرأ قول الله تعلى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". فعندما تواجه الإساءة بالحب، يصبح المسيء محبا. وكان الإمام أبو حنيفة يأتيه الناس ويقولون له إن فلانا قد سبك وشتمك، فيأمر بإرسال طبق من الفاكهة كهدية لذلك الشخص. فيتعجب الناس من ذلك، فيقول لهم "لقد أهدانا بعضا من حسناته، أفلا نهديه طبقا من الفاكهة".
هل ظلمك شخص ما؟ لماذا لا تتخذ قرارا الآن بأن تسامحه وتعفو عنه؟ سامحه واعفو عنه ثم ناجي ربك وقل له "لقد عفوت عن عبدك، فاعفو عن عبدك". وإن أردت الإحسان، وهو أعلى درجة، فأحسن إليه بكلمة طيبة ولو حتى من خلال مكالمة هاتفية، أو أرسل إليه بهدية، ثم ناجي ربك وقل له "لقد أحسنت إلى عبدك، فأحسن إلى عبدك". فالجزاء من جنس العمل يا صديقي. ألا تريد أن يعفو الله عنك ويحسن إليك؟ الإجابة متروكة لك وحدك.
وختاما، عندما يُلم بك أمر أو يُسيء إليك شخص أو تعصف بك مشكلة، لماذا تجعل حلول الحب خارج حساباتك دائما؟ فتّش دائما عن سلاح الحب واحرص على استخدامه، ولا تتركه يصدأ فتصدأ حياتك.
دمتم في حب وسعادة.
هناك تعليق واحد:
سبحانه الله
يقول الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم وبارك :- "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
ربنا يجعلنا كما يحب
شكرا جزيلا لك
إرسال تعليق